يعيش المغرب مفارقة غريبة بين النص الدستوري والواقع، بسبب استعمال اللغة الفرنسية، فمنذ 1962 نصت الدساتير المتعاقبة على أن اللغة الرسمية للبلد هي العربية قبل أن يضيف دستور 2011 اللغة الأمازيغية، إلا أن التعليم والحياة العامة ظلا مفرنسين.
وتعود جذور هيمنة اللغة الفرنسية على التعليم والحياة العامة في المغرب إلى أسباب تاريخية لها علاقة بالاستعمار الفرنسي، الذي عمل على محاربة العربية ومحاولة محوها مقابل دعم المدارس المفرنسة من أجل تخريج نخب موالية له، وهو ما صعب مهمة رجالات الحركة الوطنية بعد الاستقلال، إذ وجدوا أنفسهم أمام أطر لا تتقن سوى الفرنسية.
وحاول المغرب في بداية الاستقلال تعريب الإدارة والتعليم إلا أن محاولاته توقفت عند تعريب القضاء فقط، بينما استمر تعامل باقي الإدارات بالفرنسية، قبل أن تقرر الدولة العام الماضي لأول مرة تدريس العلوم باللغة الفرنسية لتلاميذ المستويين الإعدادي والثانوي، وهي سابقة لم تحدث في المغرب منذ 40 سنة.
وتتعامل أغلب الإدارات والمؤسسات العمومية في المغرب باللغة الفرنسية رغم أن غالبية المواطنين لا يتحدثونها ولم يتم التنصيص عليها في الدستور، مقابل ذلك عدد من المنافحين عن العربية يطالبون بتعريب التعليم الجامعي خاصة في شُعب الاقتصاد والطب وغيرها.
عنف رمزي وتفاوت طبقي
أدى اعتماد المغرب اللغة الفرنسية في التعليم والحياة العامة إلى انقسام طبقي في المجتمع المغربي، بين فئة تتقن الفرنسية بإمكانها تقلد وظائف مهمة في الدولة، وبين فئة لا تتقن هذه اللغة ينظر إليها بـ”دونية” ولا تجد مكاناً لها بين الوظائف المهمة، رغم أن الدستور ينص على أن العربية هي اللغة الرسمية للدولة.
وبحسب فؤاد بوعلي، رئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية فإن الدستور صياغة نصية لمجموعة من الأحلام والأماني أكثر منه تعبير قانوني يراد تقنينه.
ويقول بوعلي في تصريح لـ”عربي بوست” “إن النص الدستوري يتحدث عن اللغة العربية واللغة الأمازيغية ويتحدث عن اللغات الأكثر تداولاً في العالم، لكن الواقع يناقض ذلك بشكل صارخ، إذ نجد اللغة الاستعمارية وهي اللغة الفرنسية مسيطرة في الواقع الاقتصادي، والفضاء العام، والإعلام وغير ذلك من القطاعات”.
ولفت بوعلي إلى أن “اللغة الفرنسية اليوم في المغرب تمارس عنفاً رمزياً على المتلقي والمواطن المغربي، حيث تفرض عنوة خارج كل الأطر القانونية والسياسية والتوافقات المجتمعية”.
أضاف المتحدث أن “اللغة الفرنسية لا تأخذ وضعها الطبيعي كلغة أجنبية، وإنما تمارس وضعها من خلال فرض وجودها عن طريق السلطة الاقتصادية والسلطة الثقافية التي تحاول أن تبرمج وتوجه العقل الجمعي المغربي نحو باريس”.
وبحسب بوعلي، الذي يُدرس أيضاً طلبته باللغة الفرنسية، فإن “اللغة الفرنسية هي لغة صراعية، وليست لغة طبيعية”، والمقصود باللغة الصراعية، بحسبه هي التي “تدخل في مواجهة مع اللغات الوطنية عكس باقي اللغات الأجنبية التي يعتبر الانفتاح عليها مكسباً للتعدد”.
ويتابع المتحدث أن “نتيجة فرض اللغة الفرنسية في المغرب هو أننا سنعيش ميزاً عنصرياً وطبقياً بين مكونات المجتمع، إذ نجد أنفسنا أمام طبقة ميسورة تعيش بالفرنسية ومنفتحة على لغات جديدة، وطبقة تعيش خارج هذا المسار حتى لو فرنست المقررات والمناهج سنجد أننا نضيف ميزاً عنصرياً وميزاً طبقياً للمجتمع”.
المغرب يُكون وفرنسا تستفيد
أمام الواقع الذي تفرضه اللغة الفرنسية على المجتمع المغربي، فإن عدداً كبيراً من الأطر تختار الهجرة إلى فرنسا للعمل الرسمي فيها عوض العمل في المغرب، وذلك بسبب إتقان اللغة الفرنسية وتمكنه من سهولة الاندماج في المجتمع الفرنسي.
ويبلغ عدد الأطباء المغاربة المقيمين في فرنسا أزيد من 7000 طبيب، بحسب هيئة الأطباء الفرنسية، فيما تتحدث تقارير مغربية عن هجرة 600 مهندس مغربي سنوياً نحو فرنسا.
وكشف البروفيسور محمد البياز، أستاذ بكلية الطب بجامعة فاس أن “المغرب يصرف أموالاً طائلة على الطلبة الأطباء، إلا أن عدداً كبيراً منهم يغادرون نحو فرنسا بسبب عامل اللغة الفرنسية”.
ويضيف البروفيسور في حديثه مع “عربي بوست” أن “فرنسا تستفيد من هؤلاء الأطباء مجاناً، بينما صرف المغرب أموالاً كثيرة من أجل تكوينهم وهذه خسارة كبرى بالنسبة للمغرب”.
من جهته يعتبر فؤاد بوعلي أن “فرنسة المغرب للمواد العلمية يحد من خيارات الطلبة والتلاميذ مستقبلاً، والمقصود بذلك أن العديد من الأطر المغربية التي يصرف المغرب أموالاً طائلة على تدريسها وتكوينها تهاجر نحو فرنسا وتساهم في تنميتها بدل المساهمة في تنمية بلدها”.
ويضيف المتحدث أنه “عندما تضيق المساحات اللغوية للطالب، وعندما يتم اختيار سوق لغوية واحدة للطالب، سنجد أننا نوجه مباشرة نحو الدول الفرنكفونية، وبالتالي تكون الخيارات محدودة، ويكون المستفيد هو فرنسا بالدرجة الأولى”.
فوضى في التدريس
منذ ثلاث سنوات ألزمت وزارة التعليم في المغرب المؤسسات التعليمية استعمال اللغة الفرنسية في تدريس المواد العلمية، وذلك بمبرر تمكين التلاميذ من إتقانها في سن مبكرة حتى لا يواجهوا مشاكل في دراستهم الجامعية، إذ المقررات تدرس كلها اللغة الفرنسية. إلا أن الواقع على الأرض أظهر عكس المتوقع.
وبحسب محمد العولة، أستاذ مادة العلوم الطبيعية بأكاديمية جهة الرباط سلا القنطيرة فإن
“90% من التلاميذ الذين يصلون مرحلة التعليم الثانوي لا يجيدون التحدث والكتابة باللغة الفرنسية لأنها ليست لغتهم الأم”.
ويضيف العولة في حديثه مع “عربي بوست” الذي يدرس تلاميذه باللغة الفرنسية حالياً أن “التلاميذ الذين يجيدون اللغة الفرنسية إما ينحدرون من أسر تتحدث الفرنسية بين أفرادها، أو من أسر تصرف أموالاً من أجل تعلم اللغة الفرنسية خارج أوقات المدرسة”.
وإذا كان وزير التعليم المغربي، سعيد أمزازي قد دافع عن فرنسة المواد العلمية حتى لا يضطر الآلاف من حاملي شهادة البكالوريا من تلاميذ الشعب العلمية إلى التوجه نحو كليات الآداب والقانون بسبب عائق اللغة الفرنسية، فإن عدداً من التلاميذ النبغاء في الرياضيات والفيزياء أصبحوا يتوجهون نحو الشُّعب الأدبية تجنباً للغة الفرنسية التي يجدونها غريبة عن واقعهم.
وبحسب عبداللطيف الفنون، أستاذ مادة الرياضيات بجهة الرباط سلا القنيطرة فإن “فرنسة المواد العلمية كان لها نتائج سلبية على التلاميذ، إذ إننا لأول مرة نلحظ أن عدد الأقسام الأدبية أكثر من الأقسام العلمية في المؤسسة التي أدرس فيها، وغيرها من المؤسسات”.
ويعوز الفنون توجه التلاميذ نحو المواد الأدبية إلى عدم إتقان الغالبية العظمى منهم للغة الفرنسية باعتبارها لغة أجنبية وغريبة عنهم.
ولا يخفي الفنون في تصريحه لـ”عربي بوست” أن “الأساتذة بدورهم يعانون بسبب هذا الانقلاب المفاجئ في لغة التدريس، إذ إن هناك أساتذة درسوا أزيد من 20 سنة باللغة العربية، ثم يطلب منهم فجأة التدريس باللغة الفرنسية”، مشيراً إلى أن “عدداً من الأساتذة يُحضرون الدرس بالفرنسية ويشرحونه للتلاميذ باللغة العامية المغربية حتى يفهموه”.
ويؤكد الفنون أن “فرنسة المواد العلمية أدت إلى تراجع كبير في معدلات التلاميذ بشكل غير مسبوق”، مشيراً إلى أن “عدداً من التلاميذ المتفوقين في الرياضيات أصبحوا يحصلون على معدلات متدنية بسبب تغيير لغة التدريس”.
ضحايا اللغة الفرنسية
لا خيار في المغرب أمام خريجي الجامعات سوى إتقان اللغة الفرنسية، حتى وإن كانوا يتوفرون على دبلومات شعب معربة، فالحياة العامة والمؤسسات والشركات التي يمكنهم العمل بها مفرنسة.
ليلى واحدة من هؤلاء الضحايا، حصلت منذ 5 سنوات على إجازة في الفلسفة، واجتازت مباريات التعليم، إلا أن عدم إتقانها للفرنسية حال دون توظيفها.
تقول ليلى لـ”عربي بوست “درست بالعربية، لكن التوظيف يتطلب إتقان اللغة الفرنسية، وسأضطر للبحث عن المال من أجل التسجيل في أحد معاهد تعلم الفرنسية وإتقانها قبل اجتياز أي مباراة مستقبلاً”.
وتؤكد المتحدثة أن “فرنسة المواد العلمية زادت من ارتفاع أسعار الساعات الإضافية التي يلجأ إليها بعض الأساتذة بحثاً عن دخل إضافي، ولمساعدة التلاميذ والطلبة الذين عجزوا عن الاستمرار في مسارهم التعليمي بسبب عائق اللغة”.
محمد العولة، أستاذ مادة العلوم الطبيعية وأب لثلاثة أطفال يؤكد هذه الحقيقة قائلاً: “بعد قرار الدولة فرنسة المواد العلمية ارتفعت أسعار الساعات الاضافية، وأنا واحد من هؤلاء الآباء الذين يضطرون لصرف المال على أبنائهم من أجل التعلم خارج المدرسة، والطبقات الفقيرة لن يكون بمقدورها توفير هذه المصاريف”.
من جهته، يؤكد نجيب حاصل على الإجازة في القانون باللغة العربية في حديثه مع “عربي بوست” أن “عدم إتقانه اللغة الفرنسية فوت عليه عدداً من فرص الشغل مع شركات القطاع الخاص، التي لا تتعامل إلا بالفرنسية”.
تكلفة اقتصادية واجتماعية
وبحسب عمر الكتاني أستاذ الاقتصاد بجامعة محمد الخامس بالرباط فإن “فرنسة التعليم والحياة العامة له كلفة اقتصادية كبيرة، إذ يضطر المغرب لصرف أموال طائلة على تعلم هذه اللغة لفئات ليسوا في حاجة إليها”.
وأضاف الأستاذ في تصريحه لـ”عربي بوست” أن “تعلم لغة أجنبية يجب أن يكون من أجل غايات وأهداف محددة، أما أن نفرض تعلم لغة على الجميع فهذا غير معقول، فما الذي سيستفيده الميكانيكي والنجار والحداد والبناء غير تضييع الوقت في تعلم اللغة الفرنسية”؟
من جهته يرى فؤاد بوعلي أن “المستفيد من فرنسة التعليم في المغرب هي دور النشر الفرنسية، إذ يستورد المغرب المقررات المدرسية من فرنسا بأسعار مرتفعة، فيما دور النشر المغربية لا تستفيد شيئاً، والمغرب خسر مادياً وثقافياً باعتماد اللغة الفرنسية”.
من جهته، يؤكد البروفيسور البياز في حديثه مع “عربي بوست” أن”تدريس الطب باللغة الفرنسية في المغرب تكون نتيجته تخرج أطباء غرباء عن المجتمع ولا يتكلمون لغته، حيث يجد الطبيب المغربي صعوبة في التواصل مع المرضى إذا لم يبذل مجهوداً ذاتياً لإتقان العربية”.
ويؤكد البياز، الذي كان من أوائل الأساتذة الذين أشرفوا على تأطير أطروحات في الطب باللغة العربية في جامعة فاس أن “اللغة العلمية للنص التدريسي في الطب لا تشكل إلا 10% مما يتلقاه الطلبة، أما ما تبقى فهي لغة عادية”.
وأضاف المتحدث في تصريح لـ”عربي بوست” أن “اللغة الفرنسية تظل لغة غريبة، والمشكل أنها أصبحت متجاوزة علمياً، لذلك فإن الطلبة والأساتذة الذين لا يتقنون الإنجليزية تصلهم المعرفة متأخرة، أي أنهم ينتظرون إلى حين ترجمة النصوص العلمية إلى الفرنسية”.
ويؤكد البروفيسور البياز على ضرورة تدريس الطب باللغة العربية، فهي قادرة على مواكبة جميع العلوم بفضل ما تتميز به من غنى ومن قدرة على توليد المصطلحات.
ويضيف “إذا أردنا الانفتاح اليوم، فيجب أن نتعلم الإنجليزية لأنها لغة البحث العلمي، لكن التدريس يجب أن يكون باللغة العربية لأنها هي اللغة التي يمكن للطلبة المغاربة الإبداع من داخلها بسبب الارتباط الوجداني بها”.
موقف البياز يؤيده فؤاد بوعلي وعدد من الباحثين والأكاديميين المغاربة المنضوين في جمعيات تدافع عن اللغة العربية وضرورة الانفتاح على الإنجليزية باعتبارها اللغة الأكثر استعمالاً من طرف الباحثين في عدد من المجالات العلمية.
لكن مسؤولاً حكومياً تحدث لـ”عربي بوست” اعتبر أن “التحول من اللغة الفرنسية نحو الإنجليزية ليس متاحاً أمام المغرب اليوم، إذ يجب تكوين الأطر والأساتذة القادرين على التدريس بالإنجليزية أولاً”.
وأشار المسؤول الحكومي إلى أن “وزارة التعليم العالي ألزمت مؤخراً طلبة الدكتوراه بإتقان اللغة الإنجليزية، وهو ما سيمكّن بحسبه من إعداد أطر التدريس بالإنجليزية مستقبلاً”.
وبخصوص عدم احترام الدستور الذي ينص على أن العربية هي اللغة الرسمية للدولة من قبل عدد من الإدارات، أشار المسؤول الحكومي إلى أن “رئيس الحكومة أصدر عدداً من المنشورات التي تلزم الإدارة بمخاطبة المواطنين باللغة العربية أو الفرنسية، إلا أن هناك إرثاً لم نتخلص منه بعد، ويجب النضال من أجل تجاوزه”، منوهاً في هذا الصدد بتوجه بعض المواطنين إلى القضاء من أجل إلزام الإدارة بتعريب المراسلات التي تبعثها إليهم، وإصداره أحكاماً لصالحهم.
وكان الفيلسوف المغربي الراحل عابد الجابري قد دافع عن تعريب التعليم والحياة العامة في المغرب، ويرى في الفرنسة سبب تخلف المغرب في عدد من المجالات بقوله الشهير “إما أن نعرِّب التعليم وإما أن نفرنس الشعب”.
رويترز