أحمد عصيد
تودع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل منصبها وتنهي حياتها السياسية الحافلة بالمنجزات العظيمة دون أن يتظاهر الناس لإسقاطها أو يقول لها أحد “إرحلي”.
انتخبها الألمان فقادت البلد لمدة تقرب من عقدين عرفت خلالهما ألمانيا تحديات عظمى، واستطاعت ميركل أن تواجه تلك التحديات بهدوء وحكمة ورصانة وعقلانية قل نظيرها، وخلال مدة حكمها لم يسبق أن اعتبرت نفسها أسمى من القانون أو عاشت فضيحة إدارية أو مالية، أو خرقت التعاقد الديمقراطي الذي يربطها بالألمان.
لم تقم ميركل خلال هذه المدة كلها باستغلال إمكانيات الدولة لمصالحها الشخصية أو لخدمة أقاربها، ولم تجعل عملها ونجاحاتها ركيزة لعبادة شخصها، ولم تبحث عمن يؤلف أغان وطنية في مدحها، ولم تعمل على إرشاء صحفيين لتتبع خطواتها والتنويه بها بمناسبة وبدونها، ولم تحتل نشرات الأخبار لمدة ساعة ونصف، ولم تعتبر نفسها ذات شرعية مستمدة من السماء، ولم تعتقل معارضيها أو تنظم لهم محاكمات صورية للانتقام منهم، كانت تستمع إليهم بإمعان وصمت وبرودة أعصاب مثالية، وتتصرف بعد ذلك وفق القانون وبرنامجها السياسي، وحسب ما يمليه عليها ضميرها، ولم تجمع ثروة خلال توليها لمنصبها، بل إنها ستعود لحياتها السابقة البسيطة، مع جيرانها السابقين.
تركت ميركل موقعها السياسي بعد أن جعلت من ألمانيا القوة الأولى في الاتحاد الأوروبي. ولم يعتبر الشعب الألماني أن ما فعلته ميركل مِنة منها أو صدقة، بل اعتبروا أنها لم تقم إلا بواجبها الذي من أجلها انتخبت، والذين انتخبوها لم يقولوا إنها امرأة قد تغلب عليها العاطفة وأنها ناقصة عقل وأنهم قد لا يفلحون إذا ولوها أمورهم،. بل نظروا إلى كفاءتها وحنكتها ودهائها، لأنهم يفكرون انطلاقا من الواقع لا من نصوص جامدة أو فقه قديم.
وعندما انهارت سوريا تحت ضربات الإرهاب والفتنة الطائفية وتشرد شعبها في المنافي، استقبلت مليون سوري، واجهت بسببهم حملات شعواء من اليمين المتطرف، ووقفت بصرامة وحسّ إنساني عال مع اللاجئين رغم أنها كان بإمكانها أن تقوم بنفس ما قامت به الدول المجاورة لها، لم تسأل اللاجئين عن عقائدهم أو أنسابهم وشجراتهم العائلية، ولم تنظر إلى ألوانهم، لكنها خصّصت ميزانيات هائلة لاستقبالهم وتعلميهم وإيوائهم وتشغيلهم وتربية أبنائهم أحسن تربية، فاستفادت ألمانيا الزيادة في نسبة سكانها الذين يعانون من مستوى خصوبة متدن، واستفاد اللاجئون الأمان والأمن والشغل ومستقبل أبنائهم في بلد العلم والحضارة.
سيرة ميركل صفعة لكل الحكام والشعوب البئيسة التي تعيش بمنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ودرسٌ لا أعتقد أن أحدا سيستفيد منه من أبناء هذه البلدان التي تعدّ جحيما للمرأة في الإحصائيات والأرقام العالمية، حتى صار من ثوابت الثقافة السائدة في هذه البلدان احتقار النساء وتبخيس أدوارهن والحرص على جعلهن يبقين تحت الوصاية.
على كل العرب والمسلمين أن ينحنوا احتراما لهذه السيدة العظيمة ويطهروا مرجعياتهم الثقافية والدينية من كل نصوص تحقير النساء والاستهانة بذكائهن وكفاءتهن.
وبهذه المناسبة، على الذين أزعجهم تفوق الإناث في الامتحانات بالمغرب أن يتقبلوا الهزيمة ويخجلوا من كسلهم وتبلدهم الذهني.