في خريف عام 1975، استعدت إسبانيا لمواجهة المسيرة الخضراء التي دعا إليها الملك الراحل الحسن الثاني نحو الصحراء المغربية، خصوصا أن الأمر يتعلق بأزيد من 300 ألف مغربي. لذلك أطلقت مدريد عملية “مارابونتا” بالتوازي مع عملية “ترابيسيو“، شملت نشر القوات البرية والبحرية والجوية، وزرع عشرات الآلاف من الألغام، وتجهيز وحدات المدفعية والطائرات المقاتلة.
وتكشف شهادات الضباط الإسبان، أدولفو كولُوما وكارلوس غونثاليث أَيير، عن توتر شديد وأجواء استعداد لحرب لم تقع.
ولأن احتمال أن تتحول تلك المسيرة إلى عملية عسكرية كان واردا لدى الجيش الإسباني، فقد استعد لـ”الحرب”.
في الوقت نفسه، كانت مفاوضات دبلوماسية تجري بين مدريد والرباط. وتوصّل كل من الملك الحسن الثاني والوزيران الإسبانيان أنطونيو كارو وخوسيه سوليس إلى اتفاق يقضي بانسحاب إسبانيا من مستعمرتها الأخيرة.
تم نشر 20 ألف لغم مضاد للأفراد، وتجهيز وحدات المدفعية الخفيفة وكتائب من الفيلق الإسباني (الليخيون)، إضافة إلى خطة إنزال بحري وطائرات (Saeta) وT-6 المقاتلة، استعدادا لأي مواجهة محتملة في 6 نونبر 1975.
كانت الحرب احتمالا ناقشه الجنرال فرانكو في آخر اجتماعين لمجلس وزرائه، قبل أن يُصاب بأزمة قلبية في قصر إل باردو دخل على إثرها في مرحلة احتضار، فيما أنهى سوليس وكارو المفاوضات النهائية مع المغرب.
يسترجع الجنرال المتقاعد أدولفو كولُوما تلك التفاصيل قائلا: “خلف ذلك الشريط كان هناك حقل ألغام آخر، لكنه كان وهميا. أما الحقيقي فكان على بعد نحو سبعة كيلومترات داخل الحدود، محاطا بسياج معدني ومُعلما بوضوح بلوحات تحذيرية باللغتين العربية والإسبانية كُتب عليها (خطر – ألغام)”.
يتحدث كولُوما عن تلك الأيام قائلا: “في خريف عام 1975 كنت ملازما في الثانية والعشرين من عمري، أقود أول مهمة لي ميدانيا. كنت مسؤولا عن وحدة من الفيلق في منطقة سِبويا، على خط المواجهة الأول”.
ويشير إلى أن عملية “مارابونتا” كانت قد بدأت قبل وصول المشاركين في المسيرة الخضراء إلى طرفاية، آخر بلدة مزودة بوسائل نقل قبل النزول جنوبا نحو الصحراء.
ويتابع قائلا “قبل يومين من تمكن المغاربة من تجاوز الحدود، كنا قد انتشرنا خلف حقل الألغام”.
الملفات السرية للأركان الإسبانية
كانت الخطوط الأمامية، خلف حقول الألغام مباشرة، تُعرف بـ “خط النار”، وتضم مدافع من طراز M-109، ومدفعية ميدانية، وراجمات هاون.
أما الخط الثاني، فكان يتمركز فيه لواء المظليين الذي تولى حماية مطار مدينة العيون.
وفي الخطوط الخلفية تمركز آلاف من المجندين الإسبان الإجباريين، الذين استُدعوا عبر قرعة خاصة للخدمة.
وقال “لو صدرت لنا الأوامر بالرد، لكنا نفذناها. لكن لم يكن في نية أحد إطلاق النار على مدنيين”.
الأيام الأخيرة في الصحراء
في أكتوبر 1975، استغلت عشرات القوارب فجوة قصيرة في حالة البحر الهادئة على الساحل الأطلسي المغربي لتخرج في رحلات صيد اعتيادية.
يروي ريكاردو ألفاريز مالدونادو في كتابه سجل البحرية الإسبانية 1936 – 1997”، أنه قبل الإعلان عن المسيرة كانت البحرية الإسبانية قد بدأت بالفعل في تنفيذ سلسلة من العمليات التحضيرية استعدادا للحرب، تضمنت إلغاء مناورات بحرية مشتركة مع فرنسا، تشكيل مجموعة قتالية بحرية بقيادة الفرقاطة الصاروخية “كاتالونيا” كسفينة قيادة، تجهيز الفرقاطتين “أندلسيا” وباليريس”، تأهيل المدمّرة “أوكيندو”، تعبئة ناقلة الوقود “تييدِه”، وإعداد سفينة الإنزال “كوندي دي فيناديتو” وقواربها البرمائية لتأمين رؤوس شواطئ محتملة.
كما تمّ نشر الغواصتين S-34 وS-35 في مهمات استخباراتية دقيقة. كانت الغواصات تسير نهارا في أعماق البحر معتمدة على بطارياتها، ثم تُخرج أنبوب التنفس والهوائيات ليلا لإرسال المعلومات إلى القيادة المركزية.
شهادات ضباط إسباني.. توتر يسبق الانسحاب
يحكي الملازم البحري كارلوس غونثاليث أَيير، البالغ حينها ثلاثين عاما، أنه تنقل إلى مسرح العمليات العسكرية، قائلا “كانت الأجواء مشحونة للغاية. كنا نعيش وضعا يمكن أن ينزلق بسهولة إلى مواجهة مباشرة. أي خطأ بسيط كان يمكن أن يشعل اشتباكا يتحول إلى حرب. حتى في لاس بالماس بجزر الكناري كنا نشعر بذلك التوتر. لم نكن نرغب في القتال”.
كان غونثاليث آنذاك مسؤولا عن التسليح والغواصات على متن المدمّرة “أوكيندو”،
كانت السفينة قديمة مقارنة بالفرقاطات الحديثة من طراز F-70، لكنها كانت ما تزال تمتلك مدافع من عيار 120 ملم قادرة على إطلاق نيران فعّالة نحو أهداف برية تبعد سبعة إلى ثمانية كيلومترات.
ويتابع قائلا إن مجموعة القتال البحرية كانت تجري تدريبات على إطلاق النار في منطقة روكي ديل أوستي قرب لانزاروتي، وأن أفراد مشاة البحرية كانوا ينفذون إنزالات تجريبية بزوارق مطاطية قرب ميناء فوس بوكراع، حيث يقع المركب الصناعي الضخم لاستخراج الفوسفاط.
يتذكر الضابط المتقاعد مشهدا طبع ذاكرته “كنا نرى مشاة البحرية وهم يعدّون تجهيزاتهم على الشاطئ، وفجأة حلّق فوقنا طائرة مغربية على ارتفاع منخفض جدا اقتربت منا كأنها تقول أنا هنا. كانت لحظة توتر حقيقية.
وبعد أيام قليلة، ومع انطلاق المسيرة الخضراء وتحوّل الاستعدادات الحربية إلى عملية “غولوندريّنا” (السنونو)، الخاصة بإجلاء المواطنين الإسبان من الصحراء، لم يختف التوتر تماما.
“أتذكر أننا كنا نعبر الطريق بسيارتنا العسكرية التابعة للبحرية، فصادفنا موكبا عسكريا مغربيا. تبادلنا النظرات ونحن نمر ببطء كان الصمت ثقيلا، كل طرف يراقب الآخر”.
سماء الصحراء سنة 1975
في سنة 1975، كان سلاح الجو الإسباني هو الذي تولّى مهمة الدفاع الجوي، وكانت قاعدة العيون الجوية تضم طائرات “ميراج F1” وطائرات الهجوم الخفيف “سوبر صابر”، إلى جانب طائرات نقل ودعم لوجستي.
يروي أحد الطيارين الإسبان الذين خدموا حينها “كنا نرى طائرات مغربية تحلّق على ارتفاع منخفض في الأفق، في طلعات استطلاعية. لم يكن أحد يريد الضغط على الزناد، لأننا كنا نعلم أن إسبانيا تغادر، وأن الحرب ستكون بلا معنى.”
ويضيف “في تلك الأيام، كان الطيارون ينامون بزيهم العسكري الكامل، تحسبا لأي طارئ. كانت الأوامر واضحة: لا تُطلق النار إلا إذا أُطلقت النار عليك أولا. لكن كل شيء كان يوحي بأننا نعيش نهاية مرحلة استعمارية بكل تفاصيلها.
كانت القيادة الإسبانية في العيون تتلقى بشكل يومي تقارير استخباراتية حول تحركات القوات المغربية في الشمال ونشاطات جبهة البوليساريو في الجنوب والشرق.
إلا أن تلك التقارير، كما يروي أحد الضباط كانت تصل متأخرة دائما، أو بلا دقة، لأن كل طرف كان يفاوض في الخفاء.
ويروي ضابط آخر من الوحدة الجوية 464 أنه في بداية نونبر، ومع اقتراب موعد المسيرة الخضراء، تلقوا أوامر عاجلة بإخلاء معدات حساسة من القاعدة الجوية ونقلها إلى جزر الكناري: “كنا نحمل أجهزة الرادار وأشرطة التسجيل وقطع الغيار في طائرات النقل العسكرية، بينما كانت أرتال من الشاحنات المدنية تتجه نحو الشاطئ محمّلة بأمتعة الإسبان الذين يغادرون… كان المشهد مأساوياً ومليئاً بالارتباك”.
ويتابع قائلا “في اليوم الذي عبر فيه عشرات الآلاف من المغاربة الحدود وهم يرفعون الأعلام والصور، شعرنا أننا أمام حشد لا يُقهر. لم يكن ممكنا فعل أي شيء. الجنود الإسبان كانوا يراقبون في صمت، وأوامر القيادة كانت صارمة “لا مواجهة”.
ويختم قائلا: “لم نكن نعلم ما إذا كنا نخسر حربا لم تبدأ بعد، أم ننهي حربا لم نكن نريد خوضها أصلا”.
ترجمة من صحيفة إسبانية، مقتبس من El oficial que bautizó ‘Marabunta a aquel plan militar español


