مذ بدأ ما يسمى بورش التعليم الأولي في المغرب وحقل التعليم يشهد تهافتا في هذا المجال قل نظيره، فبع أن ظل في الظل سنوات طوال منذ الاستقلال ومنذ صدور الميثاق الوطني للتربية والتكوين، برز إلى السطح بشكل فجائي وكأنه جني خرج من قمقمه.
فقد جاء تقرير المجلس الأعلى للتعليم سنة قاتما يريد تصوير المشهد التعليمي من مؤسسة رسمية وكأنها نزلت من القمر لا تعيش وتعرف المغرب وما يقع فيه، أو كأنها تفاجئنا بهذه الاحصائيات “الرسمية” لواقع يعلمه المغاربة بل يعيشون جحيمه مع أبنائهم وبناتهم بشكل يومي. تصدرت أرقام التعليم الأولي قتامة المشهد، بل كان الأجدر طرح السؤال لماذا كان هذا السلك متخفيا طيلة العشرين سنة التي تلت صدور الميثاق؟ ولماذا يطفو فجأة بعد غياب؟
سيقول قائل الان انتبهوا لحساسية هذه المرحلة و”فطنوا” لأهميتها في بناء مواطن الغد، وقد يقول اخر أنه ربما جاء إصلاح جديد بعد سابقيه الذين طبعهم “الفشل” ليبث الروح في جثة التعليم في البلاد. وقد يقول متفائل أنه حان الوقت للالتفات لفئة ظلت محدودة الولوج للتعليم الأولي وصار لزاما تحقيق “تكافؤ الفرص” بين أبناء المغاربة قروييهم وحضرييهم.. وقد ينبري بعض العدميين الذين لا شغل لهم سوى إحصاء زلات الوزارة ليقولوا إنه فقط ذر الرماد في العيون ولا يوجد تعليم ذو جودة في المغرب في جميع الأسلاك ليكون هناك استثناء في التعليم الأولي … وقد يقول وقد يقول واللائحة تطول بمن قد يقطر بهم سقف هذا المجال من “خبراء” و”تقنيين” وحتى “طفيليين”.
انتظرنا قرابة يوبيل فضي للإخراج التعليم الأولي لمرحلة الطفولة المبكرة وما تحمله من حساسيات نمائية وسمات شخصية، لنتفاجأ في حقل التربية والتعليم ب “بلقان” من الفاعلين والمخرجين لسيناريوهات كثيرة ضجت بها الساحة حد التيه والحيرة. نعم يتوه ولي الأمر حاليا إذا وصل طفله هذا السن وقرر ولوج نمط معين من التعليم، فهناك وساطات لا تحصى من المؤسسات والجمعيات والفعاليات بمختلف مشاربها وطبعا ما تحمله من أفكار لهؤلاء الصغار الأبرياء.
هناك تعليم أولي تابع للقطاع العمومي لكن بوساطة جمعيات المجتمع المدني ومؤسساته “الشريكة”، والقطاع الخاص وما فيه من خيارات حسب ميزانية كل مجال، وشبه المهيكل الذي لا يعلمه سوى مقدم الحي لأن المديريات الإقليمية تعجز عن الإحاطة بأرقامه وبنياته التي قد يكون بعضها يشكل خطرا على هؤلاء الصغار …وهناك قطاعات تابعة لوزارات ومقاطعات محلية وخليط متجانس وغير متجانس.
كل فرقة من هؤلاء الشيع تتبعها حمى أخرى هي حمى الكتب المدرسية المرافقة لهذا الحساء العجيب. فور صدور الإطار المنهاجي للتعليم الأولي الذي تفتقت فيه “عبقرية” مديرية المناهج عن طرق وصفتها ب “الحديثة” وأصدرت لها شعارا التجديد والتطوير، انطلقت حمى التأليف لهؤلاء الصغار وفي أغلب الأحيان بعقلية وعيون الكبار، التهافت على إنتاج “الجديد” يصب في قالب قديم، يطبعه اعتبار هذا الطفل أيضا وعاء للشحن والتلقين ولو تحت مسميات حديثة كذبا وبهتانا. طبعا هناك استثناءات أو ما يسمى “ورود المزابل «، هناك من يقاوم هذا المد التربوي ويرفض “السخرة” البيداغوجية، وهناك من كان ضحية رؤيته الحداثية، وهناك من يسعى فقط للاغتناء من كعكة جديدة قيل فيها الكثير من اللغط. ظلت المربيات في هذا القطاع الحائط القصير، تسعة وتسعون منه نساء لأنه ككل ما هو نمطي وذكوري في بلادنا لن يخرج هذا القطاع عن القاعدة، فربط المرأة بتربية الأطفال متجذر في لاوعي كل المجتمع بكل مكوناته.
صار التعليم الأولي وأطفاله ومربياته مثل كعكة يحوم حولها النسور ولو خارج القطاع شبهته بكسكس الجنائز لأن كل مار به يأكل ملء يديه.
بهيجة زوهري/ مفتشة تربوية